Juin
حزيران
06
2025
06
- حزيران
- 2025
المباحث العلمية
المختبر الجنائي
03-08-2024
 
التحقيق الجنائي يتطور
بصمات «النكهة» سلاح جديد ضد المجرمين
  جنان الخطيب  

حالات التسمم الغذائي تثير قلقًا متزايدًا في لبنان بسبب الأزمة الاقتصادية التي دفعت الناس للجوء إلى مصادر طعام غير موثوقة، إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي الذي يفسد الأطعمة المخزنة. مع ضعف الرقابة الصحية ونقص الوعي، تنتشر حالات الإسهال، آلام البطن، والتقيؤ. ولكن ماذا لو شككت في مصدر التسمم؟
هنا يأتي دور علم تحليل النكهات الجنائي Forensic Flavor Science، وهو مجال علمي جديد يساعد في تحديد مصدر التسمم الغذائي. باستخدام تقنيات متطورة، يمكن للخبراء تحليل «بصمات النكهة» الفريدة لكل طعام، مما يوفر دليلاً قيماً لتتبع مصدر البكتيريا أو المواد الملوثة. هذا العلم يساعد السلطات على تحديد المسؤولين عن حالات التسمم ومحاسبتهم، إضافة إلى سحب الأطعمة الملوثة من الأسواق وحماية صحة المواطنين

تخيل أن المحققين في قضية قتل غامضة يكتشفون أن الضحية تناول وجبة قبل وفاته، وتدور الشكوك حول تلوث الطعام أو وجود مواد سامة فيه. كيف يمكن للعلماء أن يكشفوا عن الحقيقة وراء النكهات والروائح؟

هنا يأتي دور علم النكهات الجنائية، حيث يتم تحليل المكونات الدقيقة في الطعام للكشف عن أدلة قد تكون حاسمة في حل القضايا الجنائية. في هذا المجال، تتحول النكهات من مجرد تجارب حسية إلى أدوات قوية تكشف الأسرار وتساعد في تحقيق العدالة.

علم حاسة التذوق الجنائي يكشف الجناة

فكرة بصمات النكهات بسيطة. تتكون كل قضمة من مئات المركبات العضوية المتطايرة (VOCs)  التي تحدد رائحة ونكهة الطعام، ويعتمد علم النكهات الجنائية على تحليل هذه المركبات الكيميائية التي تشكل النكهات في الأطعمة والمشروبات.
يتضمن هذا العلم دراسة كيفية تأثير التفاعلات الكيميائية على النكهات وكيفية تحديد المواد الغريبة التي قد تكون أُضيفت إلى المنتجات الغذائية بشكل غير قانوني. هذه المركبات تتأثر بمجموعة عوامل مثل نوع المكونات، طريقة الطهي، وحتى درجة حرارة التخزين. النتيجة؟ بصمة نكهة فريدة تختلف بين كل عينة طعام.
يأتي دور المحققين المتخصصين في حاسة التذوق هنا. يستخدم هؤلاء الخبراء تقنيات تحليل متطورة مثل مطياف الكتلة الغازية (GC-MS) لتحديد التركيب الكيميائي الدقيق للمركبات العضوية المتطايرة في الطعام. من خلال مقارنة هذه البيانات ببصمات نكهة معروفة لمكونات الطبق (مثل الدقيق والسكر والتوابل)، يمكن للخبراء تحديد مصدر الطعام، وحتى تتبع مساره المحتمل.

 

أكثر من مجرد «نكهة»

إن علم حاسة التذوق الجنائي له تطبيقات جدية عديدة. على سبيل المثال، يمكن استخدامه في:

- الكشف عن الغش الغذائي

يمكن استخدام علم النكهات الجنائية للكشف عن الغش في المنتجات الغذائية، مثل إضافة مكونات غير مصرح بها أو تغيير مكونات المنتج لتقليل التكاليف. يساعد التحليل الكيميائي للنكهات في تحديد ما إذا كانت المنتجات تحتوي على مواد غير طبيعية أو ضارة.

- التحقيق في التسمم الغذائي

في حالات التسمم الغذائي، يمكن استخدام علم النكهات الجنائية لتحديد مصدر التلوث. من خلال تحليل المركبات الكيميائية في الطعام المشتبه به، يمكن للعلماء تحديد ما إذا كان التلوث ناتجًا عن بكتيريا، فيروسات، أو مواد كيميائية سامة.

- حماية الملكية الفكرية

تُستخدم تقنيات علم النكهات الجنائية لحماية الملكية الفكرية للمنتجات الغذائية. من خلال تحليل التركيب الكيميائي للنكهات، يمكن للشركات تحديد ما إذا كانت هناك منتجات مقلدة تحاول تقليد نكهاتها الفريدة.

 

تقنيات التحليل في علم النكهات الجنائية

 

- التحليل الطيفي

يُستخدم التحليل الطيفي لتحديد المركبات الكيميائية في العينات الغذائية. يمكن لهذه التقنية أن تكشف عن وجود مواد غريبة أو كميات غير طبيعية من المركبات.

- الكروماتوغرافيا

الكروماتوغرافيا هي تقنية تُستخدم لفصل وتحليل المركبات الكيميائية في العينات. تُستخدم هذه التقنية بشكل شائع في علم النكهات الجنائية لتحليل الزيوت والمكونات الطيارة التي تؤثر على النكهة.

- التحليل الحسي

بالإضافة إلى التحليل الكيميائي، يُستخدم التحليل الحسي لتقييم النكهات من خلال التذوق والشم. يُعتبر التحليل الحسي أداة قيمة لتحديد الاختلافات الدقيقة في النكهات التي قد لا تكون قابلة للكشف بواسطة الأدوات الكيميائية وحدها.

في المرة القادمة التي تحتسي فيها فنجان قهوة، تذكر أن تلك القهوة قد تحتوي على أدلة خفية تساعد في كشف الجرائم

بصمات «الكافيين»؟

تحتوي حبوب البن على مجموعة متنوعة من المركبات الكيميائية، بما في ذلك الكافيين. لكن الشيء المثير للاهتمام هو أن تركيبة هذه المركبات تختلف قليلاً اعتمادًا على مصدر حبوب البن. على سبيل المثال، قد تحتوي حبوب البن البرازيلية على نسبة أعلى من مركب معين مقارنة بالبن الإثيوبي. استغل الباحثون في جامعة أميركية هذا التباين في دراستهم حيث قاموا بتحليل عينات من القهوة المتبقية في فناجين القهوة بمواقع الجرائم المشتبه بها وباستخدام تقنيات تحليل متطورة، تمكنوا من تحديد «بصمة كافيين» فريدة لكل عينة.

تساعد بصمة الكافيين في تتبع مصدر القهوة. إذا عثر على آثار للقهوة في مسرح الجريمة، يمكن للباحثين مقارنة بصمة الكافيين في مقاه أو متاجر محلية، مما يساعد على تتبع مصدر القهوة وإمكانية تحديد المشتبه بهم. كما يساهم في تحديد وقت الجريمة حيث يمكن أن يؤثر الوقت الذي مضى على تحضير القهوة على تركيبة المركبات الكيميائية. وهذا يفتح الباب أمام إمكانية استخدام بصمة الكافيين لتقدير وقت شرب القهوة، مما قد يساعد في تحديد الجدول الزمني للجريمة. كما يمكن أن تكون بصمة الكافيين بمثابة دليل ظرفي قوي يربط المشتبه به بمكان الجريمة. على سبيل المثال، إذا تم العثور على بصمة كافيين متطابقة مع القهوة المفضلة للمشتبه به في مسرح الجريمة، فهذا يعزز الأدلة الأخرى التي تربطه بالجريمة.

قضايا حديثة في علم النكهات الجنائية

فضيحة غش زيت الزيتون في إيطاليا (2020)

عام 2020، تم اكتشاف فضيحة كبيرة تتعلق بزيت الزيتون في إيطاليا، حيث كان بعض المنتجين يبيعون زيت الزيتون المغشوش بخلطه بزيوت نباتية أرخص. استخدم المحققون تقنيات علم النكهات الجنائية لتحليل مكونات الأحماض الدهنية والنكهات في عينات زيت الزيتون. أظهرت التحاليل الكيميائية أن العديد من الزيوت التي بيعت على أنها زيت زيتون ممتاز كانت تحتوي على زيوت نباتية أخرى، أدى هذا الاكتشاف إلى مصادرة كميات كبيرة من الزيوت المغشوشة وتقديم المتورطين للمحاكمة.

قضية الغش في العسل في الولايات المتحدة (2021)

عام 2021، اكتشفت السلطات الأميركية أن بعض الشركات كانت تبيع عسلاً مغشوشاً يحتوي على شراب الذرة العالي الفركتوز وغيره من المحليات الصناعية. استخدم العلماء تقنيات علم النكهات الجنائية لتحليل التركيب الكيميائي للعسل وتحديد وجود المواد الغريبة. أظهرت التحاليل أن العسل المغشوش يحتوي على مكونات غير طبيعية لا تتواجد في العسل النقي. أدى هذا الاكتشاف إلى اتخاذ إجراءات قانونية ضد الشركات المتورطة وسحب المنتجات المغشوشة من الأسواق.

فضيحة اللحوم الفاسدة في البرازيل (2022)

عام 2022، كشفت السلطات البرازيلية عن فضيحة كبيرة تتعلق باللحوم الفاسدة، حيث كانت بعض الشركات تبيع لحومًا فاسدة ومغشوشة في الأسواق المحلية والدولية. استخدم المحققون علم النكهات الجنائية لتحليل العينات المشتبه بها. أظهرت التحاليل الكيميائية وجود مركبات غير طبيعية ومؤشرات على التلاعب بتركيبة اللحوم. أدى هذا الاكتشاف إلى إغلاق بعض المنشآت الغذائية وتقديم المسؤولين إلى العدالة.

النحل: من أكل الرحيق إلى كشف الجرائم!

هل تصدق أن النحل، تلك الحشرات الصغيرة المزعجة أحيانًا، يمكن أن تتحول إلى مساعدين في حل الجرائم؟ هذا ما يحدث فعليًا في ولاية فرجينيا الأميركية، حيث يتم تدريب النحل على اكتشاف روائح الجثث المتحللة!
باستخدام حاسة الشم القوية لدى النحل، يسعى الباحثون إلى تسخيرها للوصول إلى جثث مخفية أو تحديد وقت الوفاة. فيصبح النحل «محققًا مجنحًا» يساعد في كشف الحقائق وتحقيق العدالة.
كيف؟
يتم تدريب هذه الحشرات المجنحة على ربط رائحة تحلل الإنسان بمكافأة لذيذة. بعد ذلك، يمكن إطلاق سراحها في مناطق يشتبه بوجود جثث فيها. بفضل حاسة الشم القوية لدى النحل، يمكنهم اكتشاف أدلة خفية حتى في الهواء الطلق، مما يؤدي إلى اكتشاف أسرع للجثث المخفية. ولا تتوقف الفائدة عند هذا الحد حيث يمكن أن يساعد النحل أيضًا في تحديد وقت الوفاة بناءً على المركبات العضوية المتطايرة (VOCs) التي تنبعث من الجثة المتحللة.