
تلعب عمليات الكشف الحسي دوراً أساسياً في تحديد نتيجة التحقيقات، من خلال توفير المعطيات العلميّة والموضوعيّة التي تؤكّد أو تنفي اعتراف المُشتبه به. تكثُر المشاكل والتّحديات، في هذا المجال، التي تحول دون تحقيق العدالة ومعرفة الحقيقة، مثل الاخفاقات في التعامل مع مسرح الجريمة، والنّقص في الموارد البشرية المتخصّصة، وغياب المستلزمات الاساسية بسبب الأزمة الاقتصادية... وحتى كورونا لم تُعتق عالم الجريمة. للتغلب على هذه العوائق والوصول إلى محاكمة عادلة، لا بدّ من إيجاد حلول مبنيّة على دراسات تُحاكي الواقع ومتطلباته

لا تلمس، لا تحرّك ولا تنقل أي شيء في مسرح الجريمة ما لم تتم الاشارة اليه وقياسه ورسمه وتصويره بالشّكل الصحيح. هذه هي القاعدة الذهبية للتحقيق الجنائي. لديك فرصة واحدة فقط لجمع الأدلة ولا يمكنك المحاولة مرة ثانية. أي خطأ أو أي خطوة غير مدروسة سيغيّران معالم مسرح الجريمة إلى الأبد، فتضيع الادلة وربما الحقيقة معها.
الكشف الحسي على مسرح الجريمة هو أول تدبير تحرّ يجري في التحقيقات الجنائية وله أهمية جوهرية. إذ يُقدّم الإثبات المادي على وقوع الجرم وكيفية وقوعه. كما يساهم في المحافظة على الآثار والمعالم والدلائل القابلة للزوال، وعلى كل ما يساعد على إظهار الحقيقة. ويسمح للقضاء بتكوين فكرة واضحة عن ملابسات الجريمة.
كل مسرح جريمة مختلف. وتتنوّع المشاكل والعقبات التي يواجهها المسؤولون عن عمليات الكشف الحسي بحسب طبيعة المكان ونوع الجريمة والموارد المتاحة. وبغض النظر عن خصوصية المشهد، هناك اجراءات اساسية جوهريّة لا تتغيّر من المهم التقيّد بها. وأيّ إهمال في القيام بالإجراءات المطلوبة التي تُراعي المعايير المهنية والعلمية والقوانين اللبنانية، سيؤدّي إلى فقدان السيطرة على مسرح الجريمة والإضرار بالآثار التي قد تكون أساسيّة لتحديد هويّة الجاني ومتابعة التحقيقات.
يقـوم بالكشف على مسرح الجريمة أول ضابط عدلي يصل اليه، أو المدعي العام أو قاضي التحقيق. وبناءً على إشارة من المسؤول عن التحقيق، تُكلّف الأدلة الجنائية الموجودة في كل مفرزة قضائية. فتُنقل دوريّة إلى مسرح الجريمة وتعمد إلى إجراء الكشف المطلوب وتثبيت حالة مسرح الجريمة وتوثيقه عبر التقاط الصور وإعداد خطيطة للمكان وتدوين المعلومات. كما تُرفع الآثار المتروكة والأدلة بالطّرق التقنيّة والفنيّة المناسبة. وعلى المسؤول عن التحقيق أن يُسجل في محضر مُنظّم جميع الإجراءات التي قام بها وكل وسيلة استُعملت لضبط مسرح الجريمة وجمع الادلة. ثمّ يُكلّف مكتب المختبرات الجنائية إجراء التحاليل اللازمة. وإذا لم تُجمع وتحفظ الأدلة بالشّكل الصّحيح، قبل التحليل المخبري، قد تفقد قيمتها كمصدر للمعلومات. لذلك، هناك ضرورة لإدخال هذا الاختصاص في إطار جامعي لإضفاء بُعد اكاديمي ولمواكبة التطوّر العلمي. ومن المهم معالجة النقص في الكادر المُتخصص من خلال توظيف خريجي وخبراء الأدلة الجنائية والمباحث العلميّة.

«الحشريّة» ضيّعت الحقيقة
عندمـا تقع جريمة، يتدخّل الأشخاص الموجودون في المكان إما بداعي المساعدة أو بداعي الفضول او كمحاولة مقصودة للعبث بمسرح الجريمة وتدمير الأدلة. وتبدأ وسائل الإعلام بالتوافد للحصول على سبق صحفي. وأحيانا قد يتجمّع في مسرح الجريمة العديد من الجهات الأمنيّة المختلفة، يحاول كل منها جمع الأدلة والتحقيق مع الشهود. علماً أنّ جهازاً واحداً منها فقط قد يكون مسؤولا عن الكشف على مسرح الجريمة، فيما على بقية الأجهزة منع العبث به، ومنع الشهود من مغادرة المكان، وإسعاف المصابين ونقل الجثث. وللأسف هذا ما قد يؤدي لفقدان السّيطرة على مسرح الجريمة وإعاقة التحقيق.
من المفترض أن تكون عمليات الكشف الحسّي منوطة بجهاز واحد يخضع لتدريبات موحدّة مُستدامة، تتناسب مع التطوّر العلمي في العمل الأمني والتحقيقات الجنائية. وفي حال تم الإخلال بالقوانين والمعايير العالمية لضبط مسرح الجريمة، يخضع هذا الجهاز لآليّة محاسبة واحدة والرقابة من لجنة علميّة متخصّصة. وبالتالي، هناك حاجة لاستحداث مراكز للمباحث العلميّة ولمعالجة النّقص في عدد الفنيّين المُدربين واصحاب الاختصاص، بحسب حاجات المناطق.
الحقيقة مُكلفة
بسبب الأوضاع الاقتصادية الحالية وغلاء الأسعار، يصعُب تأمين المستلزمات والمعدات الأساسية للتحقيق. فمثلاً سعر الشّريط العازل (300 متر) يتراوح بين 14 و20 دولار. اما معدّات الحماية الشخصية فقد تُكلف أكثر من 20 دولاراً للشخص الواحد.
الى ذلك، لم تعد المستحقات الماديّة للمسؤولين عن التحقيق والكشف الحسي، كما جميع القطاعات الرسمية، كافية لتأمين لوازم الحياة اليومية. علماً انّ رواتب هؤلاء في الأصل لم تكُن تتوافق مع خطورة الوظيفة التي تتطلب منهم العمل ليلاً نهاراً على مدار السّنة. فمعاينة مسرح جريمة عملية دقيقة تتطلب ساعات واحياناً أسابيع وشهوراً، فماذا لو وقعت في يوم واحد 5 أو 10 جرائم؟
لذلك، من الضروري دراسة واقع الجرائم في لبنان (عددياً ونوعياً) من خلال إحصاء دقيق لمعدلات الجريمة في مختلف المناطق. وعلى اساسها يتم رسم خطط تنظيميّة إصلاحيّة. فيُعالج النقص في الميزانية بشكل يتوافق مع حاجات ومتطلبات هذا القطاع، وتؤمّن معاشات مناسبة ومستلزمات التحقيق ومعدات الوقاية الشخصية، التي لا غنى عنها، خصوصاً في زمن الكورونا.
«كوفيد» في مسرح الجريمة
ملابس الوقاية من الاحتياطات الأساسية للتحقيق الجنائي وليست مرتبطة بوجود جائحة. فعلى كل التقنيّين والفنيّين والمسؤولين عن مسرح الجريمة وعمليات الكشف الحسي وجمع الادلة ارتداء معدات الحماية الشخصية (بدلات، قفازات، أقنعة ...) بما يتوافق مع طبيعة دورهم ومخاطر المكان والحدث، وذلك لسببين رئيسيين: اولاً لتقليل احتمالية قيامهم هم أنفسهم بتلويث المكان. ثانيًا، والأهم من ذلك، لحمايتهم من المواد المختلفة (كيميائية، بيولوجية، نووية…) التي قد تعرض سلامتهم للخطر.
واليوم، لتقليل خطر الإصابة بكورونا، يُفترض اتخاذ تدابير وقائية إضافية، خصوصاً أن طبيعة الوظيفة تتطلّب العمل في أماكن ضيّقة لفترات طويلة من الزمن، والتعامل مع مجموعة كبيرة من الناس. فمثلاً، يمكن تنظيم الضّباط في فرق غير قابلة للتبديل. فإذا مرض عضوٌ أو أكثر من فريق معيّن يمكن لفريق آخر التّدخل. وقد تكون هذه مشكلة لأننا نعاني من نقص في الكادر البشري.
إلى ذلك، يستلزم توفير مواد التعقيم، لتطهير المعدات في مسرح الجريمة ومرة أخرى في المقرّ الرّئيسي.
والأهم من ذلك، من الضروري تأمين غطاء صحيّ للقيّمين عن التحقيق وخصوصاً لأنّ هذه المعدات الوقائية قد لا تتوفر دائماً. وبالتالي فإننا نُعرّض حياتهم وصحتهم للخطر.
تحديد مسرح الجريمة
تحديد أبعاد مسرح الجريمة عملية صعبة وتعتمد على الموقف والموقع ونوع الجريمة. مع وصول المسؤولين عن الكشف الحسي إلى مكان الحادث، من المرجح أن يجدوا حاجزاً واحداً وضعه أول الواصلين. حاجزٌ واحدٌ لا يكفي لضمان سلامة الادلة. كقاعدة عامة، من الأفضل دائماً وضع حواجز إضافية حول مسرح الجريمة تفصله، على الأقل، إلى 3 مناطق. المنطقة الخارجية حيث الشهود واهالي المنطقة ووسائل الإعلام. المنطقة الداخلية التي تشمل مسرح الجريمة الفعلي حيث يعمل المسؤولون عن جمع الادلة. و بينهما، منطقة «وحدة القيادة» حيث توجد الجهات المختلفة المسؤولة ومعداتها (قاضي التحقيق، رجال الأمن، رجال الإطفاء، الصليب الأحمر…). ومن الضروري تأمين الحماية لكل منطقة وضبط سجلّ بالدّاخلين.